الدكتور: زغـلول النجـار
هاتان
الآيتان الكريمتان وردتا في آخر الربع الأول من سورة الرحمن, وهي سورة
مدنية, وآياتها ثمان وسبعون, وقد سميت بهذا الإسم الكريم لاستهلالها
به, وهو من أسماء الله الحسني, وتضمنت عددا من لمسات رحمة الله
الرحمن, وعظيم آلائه ونعمه علي عباده, ومنها تعليم القرآن لخاتم
أنبيائه ورسله( صلي الله عليه وسلم ـ وللصالحين من الإنس والجن في زمانه
ومن بعده, وخلق الانسان, وتعليمه البيان. وتدعو سورة الرحمن إلي عدد
من القيم الدينية العليا, ومنها الإيمان بالله وحده, وبما أخبرنا به من
خلقه الغيبي من الملائكة والجن, وبالبعث والحساب, وبالجنة ونعيمها,
وبالنار وعذابها, وتوصي بحسن القيام بواجبات الاستخلاف في الأرض,
وإقامة عدل الله فيها فتقول:
والسماء رفعها ووضع الميزان* ألا
تطغوا في الميزان* وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان*(
الرحمن:7 ـ9) وتؤكد السورة الكريمة علي حتمية فناء كل شيء, وعلي
حقيقة بقاء الله الخالق( سبحانه وتعالي) فيقول فيها ربنا( تبارك
وتعالي): كل من عليها فان* ويبقي وجه ربك ذو الجلال والإكرام*(
الرحمن:27,26)
كما تؤكد سورة الرحمن التباين الواضح في الآخرة بين
كل من أهل النار وأهل الجنة, فأهل النار يعرفون بسيماهم( أي بعلامات
في وجوههم من السواد والزرقة), وأنهم سوف يلقون من صور الإذلال والمهانة
ما لخصت السورة الكريمة جانبا منه, وعلي النقيض من ذلك أفسحت السورة في
آخرها أكثر من40% من عدد آياتها لتصوير شيء من مقامات التكريم في جنات
النعيم التي يلقاها كل من خاف مقام ربه في الحياة الدنيا, وتصف جانبا مما
في هذه الجنات من نعيم. وتشير سورة الرحمن إلي أن من طلاقة القدرة
الإلهية أن الله( تعالي)... كل يوم هو في شأن, وتستعرض عددا من آيات
الله الكونية الدالة علي عظيم آلائه, ونعمه, وعميم فضله وكرمه علي كافة
خلقه, وإن كان كثير من عباده المكلفين من الإنس والجن غافلين عن تلك
الآلاء والنعم, أو مكذبين بها أو منكرين لها من قبيل الجهل أو الانحراف
والتطاول والصلف..!! ولذلك تختتم السورة الكريمة بقول الحق( سبحانه
وتعالي): تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام
ومن الآيات الكونية التي استشهدت بها السورة الكريمة علي صدق ما جاءت به من الحق ما يلي:
(1) أن الله( تعالي) هو الذي أنزل القرآن الكريم, أنزله بعلمه, وعلمه خاتم أنبيائه ورسله كما علمه عددا من خلقه.
(2)
وأنه( سبحانه) هو الذي خلق الانسان, وعلمه البيان, وقضية نشأة
اللغات شغلت بال العلماء والمفكرين لقرون طويلة دون جواب سليم. (3)
وهو( تبارك اسمه) الذي أجري ولا يزال يجري كلا من الشمس والقمر بحسبان
دقيق( وهذا ينطبق علي كل أجرام السماء, وعلي كل لبنات بنائها
الأولية).
(4) وأن كل ما في الوجود من الجمادات والأحياء غير
المكلفة, وقليل من المكلفين يسجد لله( تعالي) ويسبح بحمده. (5)
وأن الله( سبحانه وتعالي) هو الذي رفع السماء بغير عمد مرئية, ووضع
ميزان التعامل بين الخلائق, وأمر بعدم الطغيان فيه.
(6)
وأنه( تعالي) هو الذي وضع الأرض للأنام, وهيأها لاستقبال الحياة,
وجعل فيها من النباتات وثمارها ومحاصيلها ما يشهد علي ذلك. (7) وأنه(
تعالي): خلق الإنسان من صلصال كالفخار* وخلق الجان من مارج من نار*.
(
وأنه( سبحانه): رب المشرقين ورب المغربين* وهي إشارة ضمنية رقيقة
لكروية الأرض, ولدورانها حول محورها أمام الشمس. (9) وأن الله(
تعالي) هو الذي مرج البحرين يلتقيان* بينهما برزخ لا يبغيان*....
يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان* وهي إشارة قرآنية دقيقة إلي حقيقة علمية
مؤكدة لم يدركها العلماء المتخصصون إلا في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي
في أثناء رحلة الباخرة البريطانية(Challenger) أو التحدي(1872
ـ1876) مؤداها أن الماء في البحار المتجاورة, وحتي في البحر الواحد
يتمايز إلي العديد من البيئات المتباينة في صفاتها الطبيعية والكيميائية,
والتي تلتقي مع بعضها البعض دون امتزاج كامل, فتبقي مفصولة علي الرغم من
اختلاطها وتلاقي حدودها, وذلك لما للماء من خصائص ميزه بها الخالق(
سبحانه وتعالي).
(10) وأن من هذه الخصائص المميزة للماء ما جعله
قادرا علي حمل السفن العملاقة علي ظهره, وجريها في عبابه, وطفوها فيه
كأنها الجبال الشامخات. (11) وأن الفناء من صفات كل المخلوقات, وأن
البقاء المطلق هو للخالق وحده.
(12) وأن الأرض في مركز الكون
لتوحد أقطارها وأقطار السماوات, وأن الكون شاسع الاتساع بصورة لا يستطيع
العقل البشري استيعابها, وأن أيا من الجن والإنس لا يستطيع النفاذ من
أقطار السماوات والأرض إلا بسلطان من الله( تعالي). (13) وأن السماء
الدنيا مليئة بالنيران وفلز النحاس( علي هيئة نوي ذراته).
(14)
وأن السماء سوف تنشق في الآخرة علي هيئة وردة حمراء مدهنة, وهي حالة
تنشق عليها النجوم في زماننا كما صورها مقراب هابل الفضائي.
وعقب
كل آية من هذه الآيات الكونية يأتي قول الحق( تبارك وتعالي): فبأي آلاء
ربكما تكذبان وقد ترددت هذه الآية إحدي وثلاثين مرة بين آيات هذه السورة
الكريمة.( أي بنسبة40% تقريبا من عدد آياتها الثماني والسبعين),
وفيها من التقريع العنيف, والتبكيت الشديد ما يستحقه المكذبون بآلاء الله
من الجن والإنس, الجاحدون لنعمه وأفضاله, وعلي رأسها دينه الخاتم الذي
بعث به رسوله الخاتم( صلي الله عليه وسلم) والذي لا يرتضي من عباده
دينا سواه, بعد أن أتمه, وأكمله, وحفظه بنفس لغة الوحي كلمة كلمة,
وحرفا حرفا علي مدي أربعة عشر قرنا وإلي أن يرث الله( تعالي) الأرض ومن
عليها...!! وكل آية من الآيات الكونية الواردة في سورة الرحمن تحتاج إلي
معالجة خاصة بها, ولما كان ذلك يحتاج إلي تفصيل لا يتسع له المقام,
فسوف أقصر الحديث هنا علي الآيتين(20,19), من السورة الكريمة, واللتين
أشير إليهما في النقطة التاسعة من القائمة السابقة, وقبل الدخول في ذلك
لابد من استعراض سريع للدلالات اللغوية للغريب من ألفاظ هاتين الآيتين,
ولأقوال عدد من المفسرين السابقين في شرحهما.